سورة الحج - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء، والتمام {انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} على قراءة الجمهور {خَسِرَ}. وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة.
وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله، فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أقلني! فقال: «إن الإسلام لا يقال» فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال: «يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب»، فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ}.
وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح، فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسلمون، فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث.
وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى {عَلى حَرْفٍ} على شك، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد.
وقيل: {عَلى حَرْفٍ} أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف.
وقيل: {عَلى حَرْفٍ} على شرط، وذلك أن شيبة ابن ربيعة قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يظهر أمره: أدع لي ربك أن يرزقني مالا وابلا وخيلا وولدا حتى أو من بك وأعدل إلى دينك، فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى، ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} يريد شرط.
وقال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته، وبين هذا بقوله: {فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ} صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. {وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي خلاف ذلك مما يختبر به {انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. {خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق- وروي عن يعقوب- {خاسر الدنيا} بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على {وَجْهِهِ}. وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.


{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)}
قوله تعالى: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} قال الفراء: الطويل.


{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
قوله تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه، أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا، كما قال الله تعالى:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ 10: 18} [يونس: 18].
وقال تعالى: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [الزمر: 3].
وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم والتأخير، أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمة في غير موضعها. و{مِنْ} في موضع نصب ب {يَدْعُوا} واللام جواب القسم. و{ضَرُّهُ} مبتدأ و{أَقْرَبُ} خبره. وضعف النحاس تأخير اللام وقال: وليس للأم من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر، قال الشاعر:
خالي لانت ومن جرير خال *** ينل العلاء ويكرم الاخوالا
أي لخالي أنت، وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف، والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد، لأنه لا معنى له، لان ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال: {يَدْعُوا} بمعنى يقول. و{مِنْ} مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه. قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال: {يَدْعُوا} بمعنى يقول، و{مِنْ} مبتدأ، و{ضَرُّهُ} مبتدأ ثان، و{أَقْرَبُ} خبره، والجملة صلة {مِنْ}، وخبر {مِنْ} محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه، ومثله قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها *** أشطان بئر في لبان الأدهم
قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه، ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ} [الزخرف: 49]، أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون {يَدْعُوا} في موضع الحال، وفية هاء محذوفة، أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه، ففي {يَدْعُوا} هاء مضمرة، ويوقف على هذا على {يَدْعُوا}. وقوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره {لَبِئْسَ الْمَوْلى}، وهذا لان اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج ويجوز أن يكون {ذلِكَ} بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع {يَدْعُوا} عليه، أي الذي هو في الضلال البعيد يدعو، كما قال: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 20: 17} أي ما الذي. ثم قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلام مبتدأ، و{لَبِئْسَ الْمَوْلى} خبر المبتدأ، وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي هو الضلال البعيد، قدم المفعول وهو الذي، كما تقول: زيدا يضرب، واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول، وأنشد:
عدس ما لعباد عليك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق
أي والذي.
وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون {يَدْعُوا} مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا، أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو، مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز {لَمَنْ ضَرُّهُ} بكسر اللام، أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} أي إليها.
وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة، أي يدعو من ضره أقرب من نفعه، أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود. {لَبِئْسَ الْمَوْلى} أي في التناصر {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد: يعني الوثن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8